من مآثر الصديق
عرف أبوبكر الصديق رضي الله عنه بنزول القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه
قبل أن يعرف به غيره من الرجال الذين كانوا حول رسول الله، ولا غرو، وهو الذي كان يعتبره
الرسول صلى الله عليه وسلم في فترة شبابه وصباه من خاصة خاصته الذين يزورهم . حيث كان
صلى الله عليه وسلم يتردد إلى داره فيكون من خاصة زواره . ويخرج بصحبته في السياحات والتجارات
ويصغي إليه في المشاورات . وقد حظي الصديق بحب النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يحظ به غيره
من الرجال، لما عرفه في شخصيته من ميزات رائعة وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: يا رسول الله،
أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة . قالوا: إنما نعني من الرجال . قال: “أبوها”
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: “ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها، ما خلا أبا بكر، فإنه له يد يكافيه الله بها يوم القيامة” .
شهادة الفاروق
والواقع أن سيدنا أبا بكر الصديق كان أقرب الناس في مجتمع مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان
رضي الله عنه أكثر الناس اطلاعاً على سره وسيرورته وجهره وعلانيته . وكان إلى ذلك أقرب الناس أيضاً إلى ثقته
ومودته وحسن رأيه . وقد شهد الفاروق بذلك، حيث قال: “أبوبكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم” . لقد دخل سيدنا أبوبكر منذ أول عهده ومعرفته بمحمد بن عبدالله “الأمين” في عهد قوي
محمود معه، يقف إلى جانبه ويؤاخيه ويؤازره ويناصره في جميع المواقف فكان النبي صلى الله عليه وسلم
يركن إليه ويستمع منه ويأخذ بمشورته في معظم الأحيان، ولهذا نراه في حقبة النبوة لا يبخل بمال ولا عمل
ولا نفس من أجل إعلاء الرسالة الإسلامية السمحاء التي شرف الله عز وجل نبيه بها . وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يعرف في قرارة نفسه مقدار محبة أبي بكر له وقوة عهده الذي قطعه له . وقد خبر ذلك
بنفسه في جميع المواقف الحرجة التي كان يمر بها ومن معه من المسلمين الأوائل . ولهذا جعله محل سره
وموضع أمانته ومحل ثقته . فكان له من خلال ذلك مصدر قوة جديدة .
ومما زاد أبا بكر رفعة وقدراً ومهابة بين عموم أهل مكة، أنه كان يحوز ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وشرف
صحبته . فالنبي لم يكن حبه حب الرجل يجزي به من يحبه ويخلص له ويوليه الجميل من ذات نفسه وماله
ثم لا يزيد على ذلك شيئاً، بل كان بالإضافة إلى ذلك حب الرجل لمن يستحق منه الحب لفضيلته وكفايته
ومقدرته على معونته في ما تجرد له من عمل عظيم نابع من القلب .
وربما كانت الصداقة التي تجمع سيدنا أبا بكر رضي الله عنه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل
النزول الشريف أمراً طبيعياً ينشأ ويتطور بين الناس، بناء للثقة المتبادلة والمودة المتبادلة، غير أن
هذا الأمر الطبيعي كما نقول والذي يجري بين الناس في كل زمان ومكان، حدث له تحول عظيم بعد النزول
الشريف، فقد تابعت هذه الصداقة المشربة بالنبل الإنساني طريقها إلى الترقي فبلغت طوراً من العهد لم
ينشأ بين الناس . ودليل ذلك حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصديق للإمامة بعده، بوجود عدد جم من
صحابته الأجلاء، وبحضور الشخصيات الإسلامية المرموقة وحشد عظيم من المسلمين . ذلك
أن العهد هو العهد بين نبي الله والشيخ الجليل الصديق .
عهود قاطعة
لقد قوى عهد أبي بكر رضي الله عن للنبي صلى الله عليه وسلم الصداقات التي كانت قد نشأت بين الصديق
رضي الله عنه وصحابة رسول الله الأجلاء . وقد انطلقت هذه الصداقات وتدرجت بشكل عفوي وطبيعي
لأنها جرت على طبع أبي بكر الذي فطر عليه من الإخلاص للدعوة والرفق والمودة والمروءة والحياء في
اتصاله بهم واستقباله لهم وتعاونه معهم . فكان رضي الله عنه يحسن صحبتهم ويثبت لهم ما اثبته النبي
لهم في حياته . وكانت عهوده لهم في ذلك عهوداً قاطعة، بنيت على الثقة المتبادلة والإخلاص للإسلام
ولمسيرته العظيمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .وقد راعى الصديق في عهوده مع أصحاب
رسول الله أو مع أهل بيته، التزام روح الإسلام وروح الدستور الإسلامي كما عرفه من خلال القرآن
الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد امتلك الصديق رضي الله عنه من الجرأة الإسلامية والعربية، ما جعله رقيباً على حق الله وحقوق
المسلمين، كما استبعد المجاملة في مسألة الخلافة من بعده لأنه خشي الاخلال بعهد الله الذي لا عهد
أقوى من عهده، تماماً كما خشي الإخلال بالوحدة الإسلامية التي هي بنظره عمود الدولة وعمود الإسلام .
فالصديق رصي الله عنه كانت عهوده مع شخصيات الإسلام في حقبة الخلافة، عهود الإسلام مع المسلمين،
فهو لا ينكث عهداً قطعه، ولا يعود عن أمر أمر به، ما لم تكن له حجة دامغة في البطلان . وقد أحاط الخلافة
بالمدينة بعدد جم من الصحابة الأجلاء . وجعلهم مرجعه الصالح في المشورة والرقابة على العمال .
فالإسلام قرآناً وسنة هو حصانته الأولى والأخيرة في ما كان يقطعه من عهود لأهل الإسلام ورجال الإسلام،
من عترة رسول الله ومن صحابته على حد سواء . إذ كان الصديق رضي الله عنه أميناً للرسالة الشريفة،
وهو لم ينس أن يحذر عمر رضي الله عنه بعد استخلافه فقال له: “واحذر هؤلاء النفر الذين انتفخت
أجوافهم وطمحت أبصارهم . . فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله” .
وما تكشف من حياة أبي بكر وهو بين يدي ملاك الموت في عهوده للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته،
لهو من عظيم أداء الخليفة الأول في بناء تراث عظيم للإسلام والمسلمين .