أن الذي يتدبر القرآن الكريم، يرى جانبا كبيرا
من آياته وسوره، قد اشتمل على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى قصص
غيرهم من الأخيار والأشرار. يرى ذلك بصورة أكثر تفصيلا في السور المكية،
التي كان نزولها قبل الهجرة، لأنها في الأعم والأغلب اهتمت بإقامة الأدلة
على وحدانية الله تعالى وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن
ربه، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى وعلى أن البعث وما يترتب عليه
من ثواب أو عقاب حق وصدق. وهذه الأدلة ساقتها السور المكية تارة عن طريق
قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتارة عن غير ذلك من الطرق الأخرى، كالنظر في
ملكوت السماوات والأرض، وفي خلق الإنسان وغيره من سائر المخلوقات. أما
السور المدنية وهي التي كان نزولها بعد الهجرة، فهي في الأعم والأغلب اهتمت
بعد أن رسخت العقيدة السليمة في قلوب المؤمنين، بتفصيل أحكام الشريعة
العملية، كالعبادات، والمعاملات، والحدود، والعلاقات الاجتماعية، وتنظيم
شئون الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا.. فمثلا من السور المكية التي اشتمل
معظمها، أو جانب كبير منها، على قصص الأنبياء، سور: الأعراف، ويونس، وهود،
ويوسف، والشعراء، والقصص، والصافات .. الخ. والقصة في كل زمان ومكان لها
أثرها العميق في النفوس، لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاعتبار
والاتعاظ .. ولا تزال على رأس الوسائل التي يدخل منها الهداة والمصلحون
والقادة، إلى قلوب الناس وعقولهم، لكي يسلكوا الطريق القويم، ويعتنقوا
الفضائل، ويجتنبوا الرذائل، وجزاك الله كل الخير شكراا وجوههم لله الواحد
القهار ومن هنا ساق ما ساق من قصص يمتاز بسمو الغاية، وشريف المقصد، وصدق
الكلمة والموضوع، وتحري الحقيقة بحيث لا تشوبها شائبة من الوهم أو الخيال
أو مخالفة الواقع. كما أن من مميزات قصص القرآن: اشتماله عن طرق شتى في
التربية والتهذيب، تارة عن طريق الحوار، وأحيانا عن طريق سلوك طريق الحكمة
والاعتبار، وطورا عن طريق التخويف والإنذار نرى ذلك على سبيل المثال في
قوله تعالى: [{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا
قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "100" وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ
غَيْرَ تَتْبِيبٍ "101" وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ "102" إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ "103" } (سورة هود: 100 ـ 103)]
وللقصة في القرآن الكريم أهداف سامية، ومقاصد عالية، وحكم متعددة من أهمها:
أ. بيان أن الرسل جميعا قد أرسلهم الله تعالى برسالة واحدة في أصولها ألا
وهي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وأداء التكاليف التي كلف سبحانه خلقه
بها وقد وردت آيات كثيرة تدل على أن أول كلمة قالها كل رسول لقومه، هي
أمرهم بعبادة الله تعالى، ونهيهم عن عبادة أحد سواه. فهذا نوح عليه السلام
يقول لقومه كما حكى القرآن عنه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 59)] وهذا هود عليه السلام يقول
لقومه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ }
(سورة الأعراف: 65)] وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: [{يَا قَوْمِ
اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 73)]
وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه: [{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 85)] فهذه الجملة الكريمة
حكاية لما وجهه هؤلاء الأنبياء لقومهم من إرشادات وهدايات. أي: قالوا لهم
بكل لطف وأدب: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما
سواه فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. ويحكي القرآن الكريم هذا المعنى على
لسان كل نبي فيقول: [{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (سورة
الأنبياء: 25)] أي: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول آخر، إلا وأفهمناه
عن طريق وحينا، أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة آلا أنا، فعليه أن يأمر
قومه بذلك، وأن ينهاهم عن عبادة غيري. ب. بيان أن هذا القرآن عند الله
تعالى وأن ما اشتمل عليه هذا القرآن من قصص للسابقين، لا علم للرسول صلى
الله عليه وسلم بها، وإنما علمها بعد أن أوحاها الله تعالى إليه، وأنه صادق
فيما يبلغه عن ربه. استمع إلى القرآن وهو يقرر ذلك في مواطن متعددة، فيقول
في أعقاب حديث طويل عن قصة نوح عليه السلام مع قومه: [{تِلْكَ مِنْ
أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ
قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }
(سورة هود: 49)] أي: تلك القصة التي قصصناها عليك عن نوح وقومه من أخبار
الغيب الماضية، التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا، ونحن "نوحيها
إليك" ونعرفك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين. وهذه القصة وأمثالها "ما
كنت تعلمها" أنت يا محمد، وما كان يعلمها "قومك" أيضا بهذه الصورة الصادقة
الحكيمة "من قبل" هذا الذي الوقت أوحيناها إليك فيه. ومادام الأمر كذلك
"فاصبر" صبرا جميلا على تبليغ ما أمرك الله بتبليغه، كما صبر أخوك نوح من
قبلك، واعلم أن العاقبة الحسنة للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا
يرضي الله تعالى. فالآية الكريمة تعقيب حكيم عن قصة نوح عليه السلام، قصد
به الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم كما قصد به الموعظة والتسلية.
أما الامتنان فنراه في قوله سبحانه: "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل
هذا" وأما الموعظة فنراها في قوله تعالى: "فاصبر". أما التسلية فنراها في
قوله عز وجل: "أن العاقبة للمتقين". وشبيه بذلك ما قاله سبحانه في أعقاب
الحديث الطويل عن قصة يوسف عليه السلام مع أخوته مع غيرهم قال تعالى:
[{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } (سورة يوسف: 102)] أي:
ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد من قصة أخيك يوسف، من الأخبار الغيبية التي
لا يعلمها علما تاما شاملا إلا الله تعالى وحده، ونحن "نوحيه إليك" ونخبرك
به لما فيه من العظات والعبر. وأنت يا محمد ما كنت حاضرا مع أخوة يوسف، وقت
أن أجمعوا أمرهم للمكر به، وللاعتداء عليه، وقد أخبرناك بذلك للاعتبار
والاتعاظ. ونرى مثل هذا المعنى أيضا وهو الدلالة على أن هذا القرآن من عند
الله تعالى وحده ما قصه سبحانه علينا بعد حديث طويل عن جانب من قصة موسى
عليه السلام، وعن جانب من قصة مريم. أما بالنسبة لقصة موسى عليه السلام فقد
قال سبحانه: [{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى
مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ "44" وَلَكِنَّا
أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ
ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا
كُنَّا مُرْسِلِينَ "45" وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا
.. "46"} (سورة القصص: الآيات 44 ـ46)] أي: لم تكن يا محمد حاضرا وقت أن
كلفنا أخاك موسى بحمل رسالتنا، وكان ذلك عند الجانب الغربي لجبل الطور، ولم
تكن أيضا من المشاهدين لما أوحيناه إليه، ولكنا أخبرناك بذلك بعد أن خلت
بينك وبين موسى أزمان طويلة. ولم تكن إيضا مقيما في أهل مدين، وقت أن حدث
ما حدث بين موسى عليه السلام وبين الشيخ الكبير وابنتيه من محاورات .. ولم
تكن كذلك بجانب جبل الطور وقت أن نادينا أخاك موسى، وأنزلنا إليه التوراة
لتكون هداية ونورا لقومه. فالمقصود بهذه الآيات الكريمة بيان أن هذا القرآن
من عند الله تعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عالما بتلك
الأحداث السابقة، وإنما أخبره الله تعالى بها عن طريق قرآنه الكريم، ووحيه
الصادق الأمين. وأما بالنسبة لقصة مريم، فقد قال سبحانه خلالها: [{ذَلِكَ
مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (سورة آل عمران: الآية 44)] أي: ذلك القصص
الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران، وما
قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم. ذلك كله من أخبار الغيب التي ما كنت
تعلمها أنت ولا قومك، وإنما يعلمها الله وحده وأنت ما كنت حاضرا مع زكريا
عليه السلام ومع الذين نافسوه في كفالة مريم، واقترعوا على ذلك فكانت
كفالتها من نصيب زكريا عليه السلام، ومن الواضح أن المقصود بهذه الآية
الكريمة، وما يشبهها من آيات كثيرة، إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند
الله تعالى، وأن ما اشتمل عليه من قصص السابقين لم يكن للرسول صلى الله
عليه وسلم علم به، ولم يكن أيضا لغيره علم صحيح به. فجاء القرآن الكريم
بهذه القصص، وحكاها بالحق والصدق، لتكون عبرة وعظة للناس .. قال تعالى:
[{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ
اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة آل عمران:
الآية 62)] وقال سبحانه: [{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (سورة
الكهف: الآية 13)] وقال عز وجل: [{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا
كُنَّا غَآئِبِينَ } (سورة الأعراف: الآية 7)] جـ. كذلك من أهداف القصة في
القرآن الكريم: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليته عما أصابه
من قومه وتبشيره صلى الله عليه وسلم بأن العاقبة الطيبة ستكون له ولأصحابه
.. أما تثبيت فؤاده عن طريق قصص الأنبياء السابقين، فنراه في آيات كثيرة:
منها قوله تعالى: [{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ
مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ
وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة هود: الآية 120)] وقد جاءت هذه الآية
الكريمة في أواخر سورة من سور القرآن الكريم الزاخرة بقصص الأنبياء مع
أقوامهم وهي سورة هود عليه السلام. فقد اشتملت هذه السورة على قصة نوح مع
قومه، وقصة هود مع قومه، وقصة صالح ولوط وشعيب مع أقوامهم، وقصة إبراهيم مع
الملائكة الذين جاءوا يبشرونه بابنه إسحاق، كما اشتملت على جانب من قصة
موسى عليه السلام مع فرعون وملئه. والمعنى: وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام
السابقين نقصه عليك أيها الرسول الكريم ونخبرك عنه: المقصود به تثبيت قلبك،
وتقوية يقينك، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك، عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ
دعوة الحق إلى الناس .. ولقد جاءك يا محمد في هذه السورة الكريمة وغيرها من
سور القرآن، الحق الثابت المطابق للواقع، والذكرى النافعة للمؤمنين بما
جئت به. وأما التسلية عن طريق قصص الأنبياء السابقين، والتسرية عن قلبه صلى
الله عليه وسلم ودعوته إلى الاقتداء بهم في صبرهم .. فكل ذلك نراه في آيات
كثيرة منها قوله سبحانه: [{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم
مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ "52" أَتَوَاصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ "53" فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ
بِمَلُومٍ "54" وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ "55"}
(سورة الذاريات: الآيات من 52: 55)] وقد جاءت هذه الآيات بعد حديث مركز عن
جانب من قصة إبراهيم وموسى وهود وصالح ونوح عليهم الصلاة والسلام.
والمعنى: نحن نخبرك يا محمد بأنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من نبي أو
رسول، يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا، إلا وقالوا له كما قال قومك في شأنك هذا
الذي يدعي الرسالة أو النبوة ساحر أو مجنون. والمقصود بالآية الكريمة:
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من مشركي قريش، إذ بين له سبحانه
أن ما أصابه قد أصاب الرسل من قبله، والمصيبة إذا عمت خفت. ثم أضاف سبحانه
إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال: "أتواصوا به"؟ أي: أوصي السابقون
اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم، أنت أيها الرسول ساحر أو
مجنون! وقوله سبحانه: "بل هم قوم طاغون": إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال،
لأنهم لم يجمعهم زمان واحد أو مكان واحد، حتى يوصي بعضهم بعضا، وإنما الذي
جمعهم تشابه القلوب، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان. أي: هل وصى
بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا، لأنهم لم يتلاقوا،
وإنما تشابهت قلوبهم، فاتحدت ألسنتهم في هذا القول المنكر. ثم تسلية ثالثة
نراها في قوله تعالى: "فتول عنهم فما أنت بملوم". أي: فأعرض عنهم أيها
الرسول الكريم وسر في طريقك دون مبالاة بمكرهم وسفاهتهم، فما أنت بملوم على
الإعراض عنهم، وما أنت بمعاقب منا على ترك مجادلتهم .. وداود على التذكير
والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من
هدايات سامية، وآداب حكيمة .. ينفع المؤمنين. وشبيه بهذه الآيات في تسلية
الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أذى، قوله تعالى: [{وَإِن
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ
"42" وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ "43" وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ "44"} (سورة الحج: 42 ـ 44)] وأما دعوته صلى الله عليه وسلم
على الاقتداء بإخوانه الأنبياء السابقين في صبرهم، فناره في آيات متعددة
.. منها قوله سبحانه: [{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ .. } (سورة الأنعام: 90)] وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد أن ذكر
الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة عليها أسماء
ثمانية عشر نبيا، ثم أمره بالاقتداء بهم فقال: [{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .. } (سورة الأنعام: 90)] أي: أولئك
الأنبياء الذين ذكرناهم لك يا محمد، هم الذين هديناهم إلى الحق، وإلى
الطريق المستقيم فبطريقتهم إلى الإيمان بالله، وفي ثباتهم على الحق، كن
مقتديا ومتأسيا. وأما تبشيره صلى الله عليه وسلم عن طريق قصص الأنبياء
السابقين بأن النصر سيكون له ولأتباعه، فنراه في آيات كثيرة: منها قوله
تعالى: [{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا
كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } (سورة
الأنعام: 34)] أي: ولقد كذب الأقوام السابقون رسلا كثيرين جاءوا لهدايتهم،
فكان موقف هؤلاء الرسل من هذا التكذيب والأذى الصبر والثبات، واستمروا على
صبرهم وثباتهم حتى أتاهم نصرنا الذي اقتضته سنتنا وأحكامنا التي لا تتخلف.
ولقد جاءك أيها الرسول الكريم من أخبار إخوانك الأنبياء السابقين ما فيه
العظات والعبر، فعليك أن تستبشر بأن النصر سيكون لك ولأتباعك. ومن الآيات
التي بشرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن العافية ستكون له ولأتباعه، كما
كانت للأنبياء السابقين وأتباعهم قوله تعالى: [{كَتَبَ اللَّهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة
المجادلة: 21)] وقوله سبحانه: [{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا
لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ "171" إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ "172"
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ "173"} (سورة الصافات: الآيات 171
ـ173)] [{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (سورة غافر: الآية 51)] كذلك
من أهداف القصة في القرآن الكريم: الاعتبار والاتعاظ. قال تعالى: [{لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }] وهذه الآية الكريمة هي
الآية الأخيرة التي ختم الله تعالى بها سورة يوسف عليه السلام، التي
اشتملت على احسن القصص وأحكمه وأصدقه وأشده أثرا في النفوس .. أي: لقد كان
في قصص أولئك الأنبياء الكرام، وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب
العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم
وآداب وإرشادات. وما كان هذا الذي قصصناه حديثا مختلقا أو كاذبا، وإنما هو
حديث لحمته وسداه الصدق الذي لا يحوم حوله الكذب، والتأييد لما صح من الكتب
السابقة التي امتدت إليها أيدي الفاسقين بالتحريف والتبديل، والتفصيل
والتوضيح للشرائع السابقة، والهداية والرحمة لقوم يؤمنون به، ويعملون بما
فيه من أمر أو نهي. والعبر والعظات التي نأخذها من قصص القرآن الكريم، لها
صور شتى منها: بيان حسن عاقبة المؤمنين، الذين ثبتوا على الحق، وابتعدوا عن
الباطل، وتابوا إلى الله تعالى توبة صادقة، وشكروا الله تعالى على نعمه،
بأن استعملوها فيما يرضيه لا فيما يسخطه. ونرى نماذج لذلك في قصة سليمان
عليه السلام الذي آتاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فلم يبطره
هذا الملك، ولم يشغله عن ذكر الله تعالى بل قال كما حكى القرآن عنه "هذا من
فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر". ونرى نماذج لذلك في قصة ذي القرنين، الذي
مكن الله تعالى له في الأرض، فاستعمل ما آتاه الله من قوة في الخير لا في
الشر، وفي الإصلاح لا في الإفساد. ونرى نماذج لذلك في قصة أصحاب الكهف،
الذين آمنوا شوي وارجع لعيون احلى شبابهم، وزادهم الله تعالى إيمانا على
إيمانهم، بسبب ثباتهم على الحق. نرى نماذج لذلك في قصة قوم يونس عليه
السلام الذين استجابوا لدعوة الحق، وصدقوا نبيهم فيما أخبرهم به، وأخلصوا
دينهم لله تعالى. [{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا
إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ
عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
(سورة يونس: الآية 98)] والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم،
فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من العذاب، كما نجا منه قوم
يونس عليه السلام بسبب ندمهم على ما فرط منهم، وإيمانهم إيمانا صادقا،
وتوبتهم توبة نصوحاً، فعاشوا آمنين إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا ..
ومنها: بيان سوء عاقبة المكذبين، الذين أصروا على كفرهم، ولم يستمعوا
لنصائح أنبيائهم، واستحبوا العمى على الهدى، وجحدوا نعم الله تعالى
واستعملوها في المعاصي لا في الطاعات. ونرى نماذج لذلك في قصة قارون الذي
آتاه الله تعالى من النعم ما أتاه، فلم يشكر الله تعالى على نعمه، بل قال
بكل غرور وصلف: "إنما أوتيته على علم عندي". كما نرى نماذج لذلك في قصة أهل
سبأ الذين قال الله تعالى في شأنهم: [{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ "15"
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ
مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ "16" ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ
نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ "17"} (سورة سبأ: الآيات: 15 ـ 17)] ولفظ "سبأ"
في الأصل: اسم لرجل ينتهي نسبه إلى أول ملك من ملوك اليمن، والمراد به
هنا: الحي أو القبيلة المسماة باسمه، وكانوا يسكنون بمأرب على مسيرة ثلاثة
أيام من صنعاء. والمعنى: لقد كان لقبيلة سبأ في مساكنهم، علامة واضحة على
فضل الله مساكنهم والثاني عن شمالها .. وقال الله تعالى لهم على ألسنة
الصالحين منهم: "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" نعمه، فأنتم تسكون في بلدة
طيبة، فيها كل ما تحتاجونه، وقد منحها لكم الله الرحيم بكم، الغفور
لذنوبكم، فاشكروه على ذلك. "فأعرضوا" أي: فأعرضوا عن نصح الناصحين، وجحدوا
نعم الله، فكانت نتيجة ذلك، أن أرسل الله تعالى عليهم السيل المدمر، وتحولت
البساتين اليانعة إلى أماكن ليس فيها سوى الثمار والأشجار التي لا تسمن
ولا تغني من جوع. هذا الذي فعلناه بهم، سببه جحودهم وبطرهم، ومن سنتنا أننا
لا نعاقب بهذا العقاب الرادع إلا من جحد نعمنا، وفسق عن أمرنا. والمتدبر
للقرآن الكريم يراه قد ساق لنا كثيرا من قصص الجاحدين، ثم بين لنا سوء
مصيرهم. ومن ذلك أنه سبحانه بعد أن ذكر لنا جانبا من قصص نوح وإبراهيم
ولوط، وشعيب، وهود، وصالح وموسى .. مع أقوامهم، عقب على ذلك بقوله تعالى:
[{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ
حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ
خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (سورة
العنكبوت: 40)] أي: فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط ..
أخذناه وأهلكناه، بسبب ذنوبه التي أصر عليها ولم يرجع عنها. فمنهم من
أرسلنا عليه "حاصبا" أي ريحا شديدة رمته بالحصاة كقوم لوط عليه السلام.
ومنهم من أخذته الصيحة الشديدة المهلكة كقوم صالح وشعيب عليهما السلام
ومنهم من خسفنا به الأرض وهو قارون. ومنهم من أغرقناه كما فعلنا مع قوم نوح
ومع فرعون وقومه. وما كان الله تعالى مريدا لظلمهم، ولكنهم هم الذين ظلموا
أنفسهم، وأوردوها موارد المهالك، بسبب إصرارهم على كفرهم وجحودهم. هذه بعض
الأهداف والمقاصد التي من أجلها ساق القرآن ما ساق من قصص، امتاز بسمو
غايته، وشريف مقاصده، وعلو مراميه. وهناك أهداف أخرى، يستنبطنها كل ذي عقل
سليم، وما ذكرناه هو قليل من كثير، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.